.

.


تقديمُ فضيلة الشّيخ عزّ الدِّين رمضاني «حفظه الله تعالى» لكتاب: «مَوَاقِفُ المُصْلِحِينَ الجَزَائِرِيِّينَ مِنْ رُسُومِ المُتَصوِّفِينَ وَأَوْضَاعِ الطُّرُقيِّينَ»

تقديمُ فضيلة الشّيخ عزّ الدِّين رمضاني «حفظه الله تعالى» لكتاب: «مَوَاقِفُ المُصْلِحِينَ الجَزَائِرِيِّينَ مِنْ رُسُومِ المُتَصوِّفِينَ وَأَوْضَاعِ الطُّرُقيِّينَ»
فلقد أطلعني الأخ الفاضل والباحث المجدّ الشّيخ أبو محمّد سمير سمراد –وفّقه الله- على مشروعه الكبير «صفحات من تاريخ الإصلاح «السَّلفيِّ» في الجزائر» المتمثِّل في جُزئه الأوّل، ورغب إليَّ أن أقرِّظ له، فامتنعت ابتداءً لعلمي أنَّ هناك من هو أولى منِّي بهذا التَّكليف والتَّشريف، واكتفيت وقتئذٍ بأن أبديتُ له بعض الملاحظات اليسيرة لينظر فيها، ويعيد صياغة بعض الألفاظ وتهذيب بعض الجمل والفقرات ليكتمل البحث صياغةً ومنهجيةً.
ولمَّا أصرَّ «حفظه الله» –وهذا من حسن ظنِّهِ بأخيه – على ما عزم عليه، أجبته إلى تحرير سطور هي بمثابة التَّقديم للكتاب لا التَّقريظ، فكان لزامًا عليَّ أن أعيد قراءة الكتاب من أوَّله إلى آخره قراءةً متأنِّيةً مركَّزةً، فكان لي ذلك بتوفيقٍ من الله، وجال نظري في فقرات البحث كلِّهِ من شرح وتعليقٍ وفوائد وتخريجات هي من جهد الباحث واستنتاجه، واقفًا على تلك النُّقول العطرة التي ضمَّنها بحثهُ وقد أحسن في الإكثار منها، والتِّي جادت بها قرائح ذلك الجيل الفريد؛ جيل جمعيَّة العلماء المسلمين «السَّلفيِّين» الجزائريين، متأمِّلاً في تلك الحجج الدَّامغة والأحكام الصَّائبة الَّتي صيغت بأسلوبٍ علميٍّ شرعيٍّ متين، ولسانٍ أدبيٍّ مفصِح مبين، كشف الكثير من الحقائق التي كانت مجهولةً آنذاك عند الخواصِّ والعوامِّ، وأماطت اللِّثام عن تلك البدع الطَّوامِّ التي أفسدت على النَّاس دينهم وعقيدتهم وعبادتهم وأخلاقهم، فما كان من جنود الجمعيَّة المغاوير إلاَّ التَّصدِّي لذلك العدوان بقلم ولسان وبيان ودعوة ليس فيها مراوغة ولا مداهنة ولا مسايرة لهوى أحد ولا موازنة، لم تأخذهم في سبيل الصَّدع بالحقِّ لومة لائم، ولم تفزعهم في كشف فضائح الباطل سطوة حاسدٍ أو ناقم، ليعلنوا بلسان صارم لا عيب فيه، وقلم جريء لا عبث فيه: أن «لا صوفيَّة في الإسلام»، وأنَّ «الأوضاع الطُّرقيَّة ورسومها بدع من الدِّين»، وأنَّ بلاد المغرب بريئةٌ منها غريبةٌ عنها لم تولد من رحمها ولم ترضع من لبنها، بل لم يظهر التَّصوُّف ولم يقم للمتصوِّفة شأنٌ إلاَّ زمن الرافضة العبيديِّين، وكان علماء الجزائر وقتئذٍ قد أنكروا على بني عبيد هذا الوافد الغريب على دين الأمَّة، وكم من وافدٍ يجب أن يحتمى منه وأن تقلم أظافيره وإن كسرت قواريره، يقول العلاَّمة الشيخ مبارك الميلي في كتابه«تاريخ الجزائر»(2/342): «وقد عرفت الجزائر التَّصوُّف زمن بني عبيد، لكنَّ العلماء أنكروا عليهم وكفَّروهم حتَّى قال محمَّد بن عمَّار الكلاعي الميروقي يوصي ابنه من قصيدة: وطاعة من إليه الأمر فالزم وإن جاروا وكانوا مسلمينا فإن كفروا ككفر بني عبيد فلا تسكن ديار الكافرينا فلم يكن يومئذٍ بالمغرب شأن للصُّوفيَّة إلى أن جاءت الدولة المؤمنية ونشرت المعارف ونصرت الفلسفة....»، إلى أن قال – مبيِّنًا الأثر السَّيِّء للصُّوفيَّة ووبالهم على العباد والبلاد - «وعلت كلمة الصُّوفيَّة فمثَّلوا أدوارهم مع العامَّة وكان ذلك مبتدأ انحطاط الجزائر والمغرب دينيًّا وسياسيًّا»اهـ. ولسائلٍ أن يتساءل – جادًّا أو هازلاً – إذا لم يكن أهل المغرب في تلك الحقبة صوفيِّين ولا عرفوا هذه الطُّرق البدعيَّة فعلى أيِّ مذهبٍ أو ملَّة كانوا؟ فالذي يجيب هو مؤرِّخ الجزائر بلا منازع الشَّيخ مبارك الميلي في كتابه «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» والذي قال عنه العلاَّمة ابن باديس (رحمه الله): «لو سمَّيته «حياة الجزائر» لكان بذلك خليقًا» ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلاَّ أهل الفضل. قال (رحمه الله): «وكان أهل المغرب سلفيِّين، حتَّى رحل ابن تومرت إلى المشرق وعزم على إحداث انقلابٍ بالمغرب سياسيٍّ علميٍّ دينيٍّ، فأخذ بطريقة الأشعريِّ ونصرها، وسمَّى المرابطين السَّلفيِّين «مجسِّمين»، ثمَّ انقلابه على يد عبد المؤمن، فتمَّ انتصار الأشاعرة بالمغرب واحتجبت السَّلفيَّة بسقوط دولة صنهاجة، فلم ينصرها بعدهم إلاَّ أفرادٌ قليلون من أهل العلم في أزمنةٍ مختلفةٍ، ولشيخ قسنطينة في القرن الثَّاني عشر عبد القادر الرَّاشدي أبيات في الانتصار للسَّلفيِّين طالعها: خبِّرا عنِّي المؤوِّل أنِّي كافر بالَّذي قضته العقول»[«تاريخ الجزائر في القديم والحديث»(2/338)]. فهذا الَّذي ذكرته من نقولٍ معزِّزًا لا مستدركًا على أخي ما جمعه وانتقاه، إنَّما هو غيضٌ من فيض كلام المصلحين السَّلفيِّين البيِّن الواضح في الإفصاح عن هويَّتهم وطريقتهم ومنهجهم، وإلى من ينتمون وإلى ماذا يدعون، الجليِّ الكاشف عن مواقفهم وتعاملهم مع خصومهم من المبتدعة والطُّرقيِّين، ولم يراوغ أحدٌ منهم – خاصةً أولئك الذين نقل المؤلِّف كلامهم – بأن سمَّى الأشياء بغير مسمَّياتها، أو عرَّى الأمور عن حقائقها، ولا دلَّس على من سأله مجيبًا إيَّاه بألفاظٍ موهمةٍ لا يفصح فيها ولا يبين، ولا قال إذا دعي ليحكم بين الفريقين: أنا مع الجميع وصديق الجميع؛ فإنَّ الشيخ أبا يعلى الزَّواوي لمَّا سأله «العليويُّون» أصحاب جريدة «البلاغ» في تعليق على مقاله في ذات الجريدة «الحجُّ بالمال الحرام و....الشيخ خليل» قائلين له: «نلتمس من الأستاذ الكاتب أن يبيِّن لنا ما هي صفات السَّلفيِّين الإصلاحيِّين...حتَّى نعرفهم بسيماهم»، أجابهم (رحمه الله) دون تردُّدٍ أو وجلٍ في مقالٍ له في «البلاغ» نفسه، عدد (77) تحت عنوان: «السَّلف والخلف في الأمم»: «فالجواب أنَّ هذا العبد الزَّواوي سلفيٌّ، والشيخ الطَّيِّب العقبي سلفي، والشيخ عبد الحميد بن باديس سلفي، والشيخ مبارك الميلي سلفي، ولم يثبت لي ظاهرًا في هذه الساعة غير هؤلاء، والمعنى أنَّا ندعو إلى هذا المذهب السَّلفي الجامع لنا الَّذي به النَّجاة والَّذي يصدق عليه الحديث في الفرقة النَّاجية التي هي على ما عليه محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ومع ذلك فلسنا معصومين»اهـ. أفبعد هذه الرُّؤية الواضحة لمنهج القوم، وبعد هذا الإصرار على المواقف الَّتي نادوا بها أوَّل مرَّة، وأعادوها في كلِّ كرَّة، تكون لهم فيها مع الخصوم مساجلات ومناظرات، ومن ثمَّ إفحامات وإلزامات، وهي كثيرة في «الشهاب» و«البصائر» و«الإصلاح» و«السنَّة» و«الصراط» وغيرها من الجرائد والمجلاَّت؛ يأتي اليوم من يدعو إلى مزجٍ غريبٍ تأباه عناصر التَّركيب، ويترنَّم بلغةٍ فيها تطريب و(ترطيب)، ولا ندري أفي وُدِّ الخصوم يرغبون، أم من عدائهم لهم يرهبون، وهم يعلمون أكثر من غيرهم –وبعضهم سليل ذاك الجيل – أنَّ التَّقريب بين الطَّريقتين ضربٌ من الخيال، بعيد التَّحقيق والمنال، وهو كالتَّقريب بين السنَّة والشيعة تمامًا. فلا دعوة إذن إلى «تسليف» الصوفيَّة أو«تصويف» السَّلفيَّة كما زعم بعضهم، ولا فائدة من تغيير أسلوب الخطاب مع قومٍ كانوا ولا يزالون يحافظون على أوضاعهم الطُّرقيَّة وينصرونها، ويعادون من خالفهم أو انتقدهم، فهم اليوم -كما كانوا أمس- معروفون بنطحاتهم كما هم معروفون بشطحاتهم. فالذي نأمل ممَّن انتمى إلى المدرسة «الباديسيَّة» قديمًا أو ادَّعى الانتساب إليها حديثًا أن يبقى على ذلك العهد الذي مضت عليه أجيال الجمعيَّة، والسَّمت الذي اتَّصف به علماؤها ومصلحوها والمنتسبون إليها، فلا يحقُّ لهم أن يرثوا منهم سحر البيان ويزهدوا في أنفع الميراث وأجلِّه وهو عقيدتهم ومنهجهم وطريقة تعاملهم مع الموافق والمخالف، أو الصَّديق والعدوِّ، أو الطَّالب للحقِّ والدَّاعي إلى الباطل. كما يجب عليهم أن لا يكتموا عن طلاَّب الحقيقة ما عرف به علماء الجمعيَّة من صلابةٍ واستماتةٍ في مواجهة الباطل، ومقارعة البدع والضَّلالات بذلك الأسلوب الَّذي أجمعوا على جدِّيَّته ومصداقيَّتِه، وأنَّه الأمثل والأصوب في صدِّ عدوان المبطلين، ودحر حجج المبتدعين، وهذا لا يعني أن يغيِّبوا الحكمة في تعاملهم، ويلغوا اللِّين والملاطفة في الحوار، وإنَّما لكلِّ مقالٍ مقام. وعودًا على بدءٍ فإنَّ ما قام به الأخ الباحث يكشف للمنصف نظرة علماء المسلمين الجزائريِّين إلى التَّصوُّف والطُّرقيِّين ومن أقرَّ بأوضاعهم ورسومهم، وحكمَهم عليهم بالضَّلال ومجانبة الحقِّ. وإنِّي أوصي أيَّ قارئٍ لهذا الكتاب بأن لا يستعجل الحكم عليه حتَّى يفرغ من الاطِّلاع على مضامينه، ولا عليه بعد ذلك أن لا يوافق حتمًا ما وصل إليه الباحث من نتيجةٍ، فالله هو الهادي إلى الحقِّ وإلى الصِّراط المستقيم. وكتب: أبو عبد الله عزُّ الدِّين رمضاني رئيس تحرير مجلَّة "الإصلاح" بتاريخ: 26 ذو القعدة 1431هـ الموافق لـ: 3 نوفمبر 2010.

 
أعلى